ادعمنا

سياسات الهويّة - Identity Politics

أصبح مصطلح "سياسات الهوية" ذا دلالةٍ واسعة من الأنشطة والنظريات السياسيّة التي قامت في ظلّ اضطهاد فئات معيّنة من المجتمع. عادةً ما تُشكَّل الحركات سياسية الهوية بهدف المطالبة بالحرية لفئة اجتماعية مهمّشة من قِبَل بقيّة فئات المجتمع، حتى يتمتع الأفراد المضطهدون بالحقوق التي يطالبون بها مهما كانوا مُتمايزين ومختلفين عن السائد في المجتمع بنطاقه الأكبر. كما لا تقوم الحركات سياسية الهوية ضمن انتماءات حزبية. 

 

التاريخ والنطاق

شَهِدَ النصف الثاني من القرن العشرين ظهور حركات سياسية شاسعة المدى مثل الحركة النسوية الثانية، حركة المطالبة بالحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة، والحركات الهندية الأمريكية. وقد دُعِمَت هذه الحركات الاجتماعية بأعمال ادبية فلسفية أثارت اسئلة حول طبيعة الهويات التي يُدافَع عنها، وعن منشأها ومستقبلها. فسياسات الهوية كوسيلة تنظيمية ارتبطت ارتباطاً وثيقاٌ بفكرة تعرض البعض للاضطهاد الاجتماعي؛ أي أنّ كون شخصٍ ما امرأةً مثلاً أو أمريكي أفريقي، يجعلُهُ عُرضةً للامبريالية الثقافية بما فيها من تنميط هوية الشخص أو محوها أو الاستيلاء عليها. ولذلك؛ تعتمد سياسات الهوية بتحليل مثل تلك الأشكال من الظلم الاجتماعي للتوصية بإعادة تعريف الانتماءات السابقة -وغيرها من الهويات- التي تُعتَبَر موصومة اجتماعياً، بمختلف الوسائل. فبدلاً من قبول الأوصاف السيئة التي يُطلقها المجتمع حول هويته الفريدة، يجب على المرء أن يُغيّر نظرته لذاته والمجتمع.

يُطلَق مصطلح سياسات الهوية على حركات سياسية واسعة المدى، وغالباً ما تتناول الأطروحات الأدبية حركات الجماعات المناضلة في سبيل العدالة الاجتماعية في الغرب الرأسمالي الديموقراطي، لكنّها تتشابه حججاً مع حركات حقوق السكان الأصليين حول العالم والمشاريع القومية ومطالبات حقوق تقرير المصير الإقليمية. لذلك، لا يوجد معيار محدد لتصنيف حركة سياسية ما ضمن "سياسات الهوية"، فالمصطلح يدل على تشكيلة مشاريع سياسة فضفاضة يقوم بكلٍ منها ممثلوها والتي تختلف تماماً عن أي حركة تم تجاهلها أو قمعها سابقاً. 

غالباً ما تفشل الأعمال النقدية في تقديم فكرة واضحة حول "سياسات الهوية" وعادةً ما يُغطّي المصطلح إخفاقاتٍ سياسية. كما أن بعض المطالب سياسية الهوية كانت غير واضحة، إلا أن الخطاب العام لسياسات الهوية خَدَم البعض ومكّنهم، حتى لمّا كانت بعض الحركات تواجه صعوبة في تحديد سمة جماعية مشتركة بسبب التعقيدات الفلسفية.

انتشرت سياسات الهوية بكثرة في القرن العشرين، وقامت الحركات السياسة المعروفة، والتي تناولتها أعمال أدبية اكاديمية تعتبر الآن من الإرث الفكري وأساسًا لـ"سياسات الهوية"؛ بدايًة من ماري وولستون كرافت وحتى فرانز فانون Mary  Wollstonecraft  & Franz Fanon، لكنّ المصطلح بحد ذاته لم يُفعّل إلا في أواخر السبعينيات من القرن العشرين. فقد شكّلت سياسات الهوية تحديّاً للمثقفين إذ ذاك وقلّما تناولوا أسسها منهجياً. عند هذا المنعطف التاريخي، كان سؤال الفرد عن موقفه من سياسات الهوية مستحيلاً. يتفق المفكرون -مع اختلاف اتجاهاتهم- على أنّ مفهوم الهوية أصبح لا غنىً عنه في الخطاب السياسي المعاصر، وأن له على نفس الصعيد تداعيات مقلقة حول مفاهيم: الذات، الشمولية، وتعرّضنا للتفكك والتكافل.

 

الفلسفة والهوية

من هذا العرض الموجز لدور سياسات الهوية في المشهد السياسي يتضح أنّ استخدام مصطلح "الهوية" يثير مجموعة أسئلة فلسفية. بعيداً عن المنطق، وما يتناوله الفلاسفة والأدباء في ميتافيزيقيا الهوية الشخصية -إحساس الفرد بذاته ووجوده. يتضح بالفعل أن العديد من المناظرات البراغماتية التي تدور حول مزايا سياسات الهوية هي اسئلة فلسفية حول الذاتية والذات. ينص تشارلز تايلور Charles Taylor بأن الهوية الحديثة تمتاز بالتركيز على صوتها الداخلي وقدرتها على الأصالة - القدرة على التفكير والتعبير عن الذات بطريقة مستقلة. إذ أن قوانين المساواة تنص على أنه من حق كل إنسان أن يعيش حياة أصيلة وفق أخلاقياته ومعايير عقله العملي، لكنّ سياسة الاختلاف خصصت الأصالة لوصف أنماط العيش الشبيهة بهويات الفئات الاجتماعية المهمشة. 

لبعض مؤيدي سياسات الهوية، يتضمن مطلب الأصالة مطالبات باسترجاع نمط حياة أو ثقافة ما قبل القمع الحاصل بسبب الاستعمار أو الإمبريالية أو حتى الإبادة الجماعية. تُعَد الخبرة الذاتية نقطة فاصلة في تشكيل هوية أصيلة في مفهوم "سياسات الهوية"، وخاصة الخبرات المكتسبة تحت أنظمة اجتماعية ظالمة فإنها قد تُشكل هويّات واعية بحقّ تحديد المصير. وبالتالي تقوم سياسات الهوية على العلاقة الوطيدة بين الحدث الجاري والخبرات المتشكلة في نطاقه، وحول توحيد المطالب في الحركات السياسية التي يثيرها الأفراد على اختلافهم. فأحياناً يختلف المعنى المُعطى لتجربة معينة عن معناها الحقيقي حسب مناهج الإدراك، فمثلاً قد يُقال لضحية عنف جنسي بأنها من تسببت بمصيرها بنفسها، على الرغم من إدراكها شخصياً أنها ليست مذنبة. يعتمد فهم هذه الثغرات التفسيرية على التفرقة بين الفهم العام للموضوع والفهم الخاص الناتج عن تجربة ذاتية. وهكذا تبلور الاهتمام بهذا الجانب من سياسة الهوية حول شفافية التجربة، والطابع الأحادي لتفسيرها. يختلف النقاد إذا ما كان تفسير التجربة يقوم على الخبرة المعنوية أم أنه يتطلب ضمنياً تفسيراً نظرياً. وعلاوةً على ذلك، فإذا كانت التجربة هي أصل السياسة، يخشى النقاد أن يتحول ما يدعوه كروكس Kruks "نظرية المعرفة" إلى قاعدة ثابتة، وتكتسب النظريات السياسة الصحة لأن أصحابها استنتجوها من تجارب معينة مروا بها؛ ومن ثم يُسد الحوار السياسي وبالتالي التحالفات، وكل ذلك بسبب استبعاد اولئك الذين لا يُشاركون التجربة.

يرى نُقاد سياسات الهوية ومؤيدوها أن مفهوم الذات مرتبط بتحديات تقاطع أشكال التمييز. التقاطعية، أو تقاطع أشكال التمييز، هو مفهوم يؤكد أن أشكال التمييز العنصري مرتبطة بعضها ببعض، مثلاً: التعامل العنصري مع النساء السود بسبب الجندر والعرق معاً. مبدؤها المركزي مبني على ترابط المحاور التي تشكّل الهوية واستحالة فصلها عن بعضها - في كلٍ من التجارب الشخصية والطبقية الاجتماعية السياسية-. فالحديث عن "الأناس الملونين" دون تمييز طبقاتهم الاجتماعية، الجندر، والجنسانية، والانتماءات القومية والعرقية، مثلاً، يعتبر تمثيلاً لتجربة بعض الأفراد فقط دون الكل، وعادةً ما يكونون ذو الحظوة. وبقدر ما تحث سياسات الهوية التصعيد حول محور واحد من مكونات الهوية تضغط على المشاركين لتعريف أنفسهم به، في حين أنهم في الواقع قد يعرفوا أنفسهم كذوات متكاملة أو رافضين لاختزال ذواتهم إلى هذا الحد. من الممكن أن تتخذ للتعميمات التي تُطلق على فئة معينة في سياقات سياسات الهوية دوراً تأديبياً لتلك الفئة يملي على أفرادها كيف يجب عليهم أن يعرّفوا أنفسهم. وهكذا، تصبح الهويّة الجديدة التي يفترض أن تكون أداةً تحررية أحد موانع الحرية، أو كما يقول أنتوني أبيا Anthony Appiah: "استبدال نوع قمع بآخر". وكما تصرّ الفئات المهيمنة في المجتمع ككل على اندماج الفئات المهمشة مع المعايير السائدة وفيها، فإن بعض الممارسات النظرية والعملية لسياسات الهوية تفرض هويّة الجماعة على كل أعضائها.

مثلاً، ثمة نقطة مشتركة في السرد التاريخي العام للحركة النسوية الأمريكية حول توحيد المطالب المقدمة نيابةً عن النساء في الموجة النسوية الثانية التي قامت أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. معظم رموز الموجة النسوية الثانية التي تمت مناقشتها وانتقادها هن نساء -مثل بيتي فريدان أو جلوريا ستاينم Betty Friedan or Gloria Steinem – كُنّ من البيض، ومن الطبقة المتوسطة، ومن مغايري الجنس، رغم ان هذه الصورة التاريخية بحد ذاتها غالباً ما تهمل مساهمات النسويات المثليات، والنسويات ملونات البشرة، والنسويات العاملات، واللاتي كُنّ أقل وضوحاً في الثقافة الشعبية لكن بنفس التأثير على حياة النساء. فبالنسبة لبعض النسويات الراديكاليات الأوائل، كانت قضية اضطهاد النساء لكونهن نساء جوهر سياسات الهوية والتي لا يجب خلطها مع قضايا الهوية الأخرى. على سبيل المثال، ناقشت شولاميث فايرستون Shulamith Firestone في كتابها الكلاسيكي (جدلية الجنس) The Dialectic of Sex بأن "العنصرية هي التمييز الجنسي"، وأن حركة القوة السوداء مثلت فقط التعاون العرقي للنساء السود في تبعية جديدة للرجال السود. فكان على النساء السود تقسيم النسوية لمحاربة العنصرية، وخاصةً التي واجهنها من النساء البيض، مركّزات في حركتهن النسوية على تحدي النظام الأبوي الذي يُفهم على أنه الصراع بين الرجل والمرأة، والذي يشكل أساس كل اضطهادات النساء. 

تم انتقاد مثل هذه المطالبات بشكل كبير في النظرية النسوية لفشلها في تمييز دوائرها الانتخابية. وأشارت بيل هوكس Bell hooks إلى اقتراح فريدان Friedan الشهير لحاجة النساء للخروج من العمل المنزلي إلى العمل المهني، متخذةً تجربة جيل ما بعد الحرب مرجعاً، فقد اقتصر العمل المنزلي ورعاية الأطفال على النساء البيض المتزوجات من الطبقة المتوسطة، ممن كان أزواجهن يعملن. عملت العديد من النساء السود والنساء العاملات خارج منازلهن لعقود (في منازل نساء أخريات أحياناً)؛ كما عملت المثليات في مهن تقليدية ذكورية وعِشن بطرق بديلة خارج نطاق الأسرة وكفالة الرجل. ورغم ما سبق، انتقدت بعض النساء المنتميات إلى المجتمعات الأقل تطوراً النظرية النسوية الغربية لعولمة مطالبها. وقلن بأن مثل هذه الحركات تُظهر نساء العالم الثالث أقل تقدماً أو استنارة من نظيراتهن المنتميات للعالم الأول، بدلاً من محاولة فهم أوضاعهن على انفراد. ووصفن حركة تحرير المرأة في الغرب على أنها تساهم في تفاقم استغلال الفقراء حول العالم من خلال دعم الظروف الاقتصادية التي تسمح للنساء الغربيات من الإساءة لعاملات المنازل المهاجرات. تظل بعض الاسئلة معلّقة حتى الآن؛ ما هي المطالبات النسوية سياسية الهوية التي يجب أن تطرحها النسوية العالمية؟ وكيف يجب أن تضمن النسوية التضامن بين كل نساء العالم من الأماكن المختلفة في ظل النظام الاقتصادي العالمي؟

ومما يزيد الطرق التقاطعية تعقيداً كون فئات الهوية التي تقوم عليها هي بحد ذاتها متذبذبة وطارئة تاريخياً. لنأخذ العرق مثالاً، فعلى الرغم من التاريخ المعقد للضرورة البيولوجية في عرض الأعراق، فإن فكرة الأساس الوراثي للفوارق العرقية فقدت مصداقيتها إلى حدٍ كبير؛ لكون المعاير المستخدمة -في مختلف المجتمعات والأزمنة- لتشكيل التنظيمات العنصرية على اساس العرق هي مشروطة سياسياً. في حين أن بعض الخصائص الجسدية البشرية هي بالبديهة موروثة، فإن تصنيف الناس إلى اعراق لا يساعد على استنتاج أي فوارق بيولوجية متماثلة. ما يستنتجه هو مجموعة معتقدات اجتماعية ذات معانٍ سياسية مبطنة. المثال الأكثر شهرة على محاولة تصوير الاختلاف العرقي على أنه بيولوجي هي "قاعدة القطرة الواحدة" المستخدم في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي بموجبها يتم تصنيف الفرد على أنه أسود إذا كان لديه "قطرة واحدة" أو أكثر من "الدم الأسود". تشير أدريان بايبر Adrian Piper إلى أن هذا الاعتقاد ليس فقط ظاهراً في القراءات المعاصرة للهوية العرقية، بل ويُفَسّر أيضًا بالنظر للتاريخ الطويل من الاختلاط العرقي في الولايات المتحدة -سواء أكان قسرياً أو طوعياً- بأن العديد من البيض بالاسم في الولايات المتحدة ينبغي إعادة تصنيفهم على انهم سود. في البلدان التي كان لديها تصنيفات عرقية متنوعة، كثيراً ما يُستَشهَد بمعاناة الأفراد في مواجهة إعادة التمييز -كأعضاء أكثر تميزاً في المجموعة العرقية- لتسليط الضوء على الصعوبات التي يواجهها العرق بكلّ فئاته. وتوضح أطروحات الأنساب أيضاً أن عدداً من الجماعات العرقية عبر التاريخ غيّرت تعريفها العرقي، كاليهود والإيطاليين والإيرلنديين. فالادعاء القائل أنّ العرق "مبنيّ اجتماعياً" لا يُمثل سياسة هوية معينة. في الواقع، فإن افتقار عرقٍ ما إلى الارتباطات بالفئات الفاعلة في الحياة اليومية (كثقافة ما أو عرق) قد يحد من فاعليتها السياسية؛ وكما وجدت النسويات الحدود المشتركة لمطالباتهن حول هوية المرأة، فإن الأمريكيين من أصول آسيوية قد لا يجدون أرضية مشتركة بين أعراقهم المختلفة وثقافاتهم المتنوعة، كالصينيين والهنديين والفيتناميين. 

نقد مفهوم الذاتية يشكّل أكبر التحديات التي تواجهها سياسات الهوية ما بعد البنيوية. إذ يزعم النقاد أن الذاتية مبنية بشكل خاطئ على فرضيّة الجوهر، بمعنى أن الموجود هو ما يقوم بذاته ولا يفتقر لغيره في وجوده. للذاتية خصائص أساسية في تحديد هوية الفرد، تتداخل مع أخرى غير أساسية كالتنشئة الاجتماعية للفرد. وبالنسبة للنقاد فإن هذا الموقف يسيء للطبيعة الوجودية للهوية وأهميتها السياسية. وعلى النقيض، يقدم أخصائيو ما بعد البنيوية وجهة نظر مغايرة تشرح الذاتية كنتاج للحوار القائم الذي يمثل كلاً من التعبير عن الذات والقيود الموضوعة على طرق التعبير عن الذات التي يمكن للفرد القيام بها. حيث لا يمكن فصل أي هوية -فردية أو جماعية- عن ظروف نشأتها، وانتمائاتها سياسية الهوية، حتى وإن كانت مطالبات تلك الحركة غير متوافقة مع الآراء الشخصية للفرد. الفكرة المركزية لهذا الادعاء تنص على أن أي مطالبة هوية سياسية يجب أن تكون جزءًا من حركة هوية سياسية ضمنياً:

إنّ الهوية تتشكل في ظل سلسلة اختلافات أصبحت مقبولة اجتماعياً. وقد أمسى وجود هذه الاختلافات أمراً جوهرياً في نشأة الهوية ووجودها، فإذا لم تتواجد الاختلافات لن يكون لحس التميز والقوة أي وجود كذلك. عندما تسود الرغبة بين الأفراد على رؤية أنفسهم وهوياتهم كأمثل نموذج، والذي يجب أن يكون هو الأصل، تتحول الاختلافات من عوامل أساسية في تشكيل الهوية الجمعية إلى عوامل خِلاف وعقبات. تحتاج الهوية الاختلافات من أجل تكون، وهي تغيّر من حقيقة الاختلافات لضمان استمراريتها. 

إذاً تكون سياسات الهوية خطيرة عندما تشجع فرداً -أو مجموعة- على فهم ذاته من خلال معارضة هوية أخرى مهيمنة، والتي عادةً ما تُظهر نفسها محايدة. وإن ترسيخ هوية الفرد من خلال فهم كهذا يعزز فيه فهماً ذاتياً قائماً على الآخر فقط، ويعمّق الهرم التسلسلي القمعي. وعادةً ما يتم التشويش على هذا الخطر بادّعاء أن هويات معينة هي هويات أساسية أو طبيعية، كما رأينا في العِرق سابقًا. 

في الوقت الذي انتشرت السمعة السيئة لسياسات الهوية على أنها تعزز من دور الضحية، حذّرت ويندي براون Wendy Brown من مخاطر الحقد (انتقام الضعفاء). وصرحت أن لسياسات الهوية أساسًا رأسمالياً يعزز بلا هوادة "الارتباطات المكلومة" والتي تتحول إلى:"هوية مُسيّسة تعلن عن نفسها وتطالب بمطالباتها فقط من خلال ترسيخ آلامها وإعادة صياغتها وتمثيلها بالدرامية وكتابة آلامها السياسية. لتصير هوية لا يمكنها الأخذ على عاتقها بأن ينتصر هذا الألم، ولا تتحمل مسؤولية مستقبلها ومستقبل غيرها." لا يزال النقاش قائماً حول السياسة الزمنية للهوية في محاولة لشرح الارتباط الهرمي بين الفئات سياسية الهوية، مُفرطة الألم، والتي تعارض بعضها البعض: فهل يمكن لهوية أن تُبنى على الاحساس بالتضامن بدلًا من استبعاد الآخر؟ كما دعت لإعادة النظر في الألم، إذا ما كان المرجع الأمثل لتبرير مطالبات الهوية. وقد صرّح بعض أنصار سياسات الهوية بأن الحركة ما بعد البنيوية عاجزة في الواقع السياسي وقادرة فقط على الهدم لا البناء. وعلى كل حال، ثمة مشاريع سياسية تحفزها الأطروحات ما بعد البنيوية.   

 

الليبرالية وسياسات الهوية

دون الديمقراطية اللييبرالية ما كان بالإمكان لسياسات الهوية الحديثة أن تتواجد. فقد نهضت الحشود للمطالبة بالديمقراطية  بادئ ذي بدء، ثم أصبحت تتجمع للمطالبة بحقوق الأقليات والمهمشين سياسياً، وهو ما أدى أولاً إلى زيادة المساواة المادية والمعنوية، وإلى نشأة سياسات الهوية الحديثة ثانياً. بيد أن شحّ عوائد الرأسمالية الليبرالية حفز نقداً جذرياً لها، في محاولة لفهم سبب استمرار تفشي الظلم بين الناس. وعلى ابسط مستوى فلسفي، اقترح النقاد أن الأنطولوجيا الاجتماعية الليبرالية مضللة- نموذج طبيعة الموضوعات والعلاقة بينها-. تتكوّن الأنطولوجيا الاجتماعية لمعظم النظريات السياسية عن الليبرالية من المواطنين -كأفراد متشابهين-، كما في تجربة الفكر الشهيرة لجون رولز John Rawls "الموضع الأصلي" original position ، والتي يتم فيها تجريد كل ممثلي المواطنين من كل الهويات والانتماءات في محاولة لاتخاذ القرارات الصائبة فيما يخص العقد الاجتماعي. وبقدر ما يتم تمثيل المصالح الجماعية في السياسات الليبرالية، فإنها تفهم كنوع من أنواع التعددية الجمعية للمصالح، حيث يشكّل الأفراد الذين يتقاسمون مصالح خاصّة جماعة ضغط سياسي يمكن للمواطنين فيها التصريح عن اهتماماتهم الفردية بكل حرية (كما هو الحال في التصويت)، أو تجميع أنفسهم لخلق ضغط ممنهج (كتشكيل جمعيات كجمعيات الحي). ومع ذلك، لا يتم التعريف بجماعات الضغط هذه بهويات أفرادها بقدر ما يتم التعريف بها وفق المصالح والأهداف المشتركة بين الأفراد، وذلك كي لا يتم وضع الأفراد بحد ذاتهم تحت الخطر عندما يتم الضغط على المجموعة. وأخيراً، يقترح النقاد أن الأحزاب السياسية، والأجهزة الأساسية الأخرى للحكومة الديمقراطية الليبرالية تفتقر الشمولية وتتمركز حول انضباط الحزب والاستجابة لجماعات الضغط السياسي والشعبية الانتخابية واسعة النطاق. ويدّعي النُقاد الراديكاليون على اختلافهم بأنهم لا يمكن أن يُعالجوا بشكلٍ فعال التهميش البنيوي المستمر في الدول الرأسمالية الليبرالية المتأخرة، وقد يتواطؤوا مع الديمقراطية الليبرالية التقليدية. 

فلسفياً، إن وجهات النظر الليبرالية للنظرية السياسية ونظرتها للجماعة غير كافيين لتمثيل النساء، أو المثليين والمثليات، أو الجماعات العرقية. ألقى النقاد اللوم على المواطن المحايد للنظرية الليبرالية لانتمائه لهوية مشفّرة ترمز للبيض، الذكور، البرجوازيين، أو المتحولين جنسياً. وشرحت هذه الفرضيّة ضمنيًا الفشل التاريخي المستمر للديمقراطيات الليبرالية في تحقيق الاندماج الكامل للأفراد المهمشين بين افراد السلطة. رغم أننا بحاجة إلى فهم المواضيع السياسية كما هي، بشكل أعمق، حسب المكانة الاجتماعية. وخصوصاً، التجربة التاريخية للظلم وما نتج عنها من وجهات نظر واحتياجات لا تتمكن المؤسسات القائمة من استيعابها. يتعرض الأفراد للاضطهاد بسبب انتمائهم إلى فئة اجتماعية معينة- لا يتمتع أفرادها بحرية الانتماء لها أو تركها، وعادةً ما يكون انتمائهم لها بغير إرادتهم، ويُعرّفهم الآخرون على أنهم أعضاء المجموعة، وتتشكل امتيازاتهم وفرصهم وفق عمق علاقة مجموعتهم بالمجموعات المهيمنة والقامعة. وما انفكت المؤسسات الليبرالية الديمقراطية تواجه تحدي الاعتراف بالهويات المختلفة مع الحفاظ على تماسك الاجراءات المؤسسية والاحترافية المهنية. مثلاً، حوار الولايات المتحدة في القرن العشرين حول تصنيفات الأعراق وفقاً لسياسة عمى الألوان مقابل السياسة العامة الواعية للألوان. كانت سياسة عمى الألوان ذات انتشار في النطاق الشعبي، والتي تعني ان عرقاً ما يجب أن يتم تجاهله في السياسة العامة والمعاملات اليومية. كان جذب الانتباه للعرق امراً عنصرياً وغير عادل- سواءً في وصفٍ شخصيّ أو في اجراءات القبول الجامعي. في المقابل، أنصار الوعي اللوني صرّحوا أن العنصرية العرقية لن تختفي سوى ببذل جهود استباقية. العمل الفعّال بحاجة لاحصاءات حول عدد الأفراد المضطهدين عرقياً في سياقات معينة، مما يتطلب بدوره تصنيفاً عرقياً. وهكذا، فإن اولئك الذين يعملون ضد العنصرية العرقية يواجهون مفارقة مألوفة في سياسات الهوية: لا بد وأن يعملوا تحت مسمّى الهوية نفسها التي يسعون لتحويلها لإثبات قضيتهم.

وجه النقاد أيضاً التهمة للاندماج، لكونه مبدأً أساسياً في الليبرالية. إذا رُمز للقضية الليبرالية كما رأها يونغ Young، فإن محاولات تطبيق معايير المساواة الليبرالية ستزيد من احتمالية مطالبة المهمشين بمواكبة هويات طغاتهم. مثلاً، اعترض كثيرون على سياسات الجنسانية والجندر وعلى حملات دعم "زواج المثليين"، على اساس أن هذه التطورات القانونية تأخذ العلاقات الشاذة إلى نموذج أعلى ومهيمن، بدلاً من مواجهة المصطلح تاريخياً، مادياً ورمزياً. فإذا افترضنا أن هذه هي المساواة، فالأمر يبدو مريباً، لأن الحاصل هو محو الهويات الاجتماعية المهمشة بدلاً من دمجها في السياسات المتخذة. احد المآخذ المهمة لليبراليين على سياسات الهوية، كان اعتمادها على مفاهيم متشابهة لتبرير الحركات السياسية. فالتطلع للناس الذين نتشابه معهم، دوناً عن اولئك الذين يشاركوننا القيم السياسية كحلفاء، يقوم بتهميش التحليل السياسي النقدي للمواقع الاجتماعية المعقدة ويساهم في عزل أفراد الجماعات لكونهم الأشخاص الوحيدين القادرين على تقديم وفهم الدعاوى القانونية. بعد موجة سياسات هوية غير عادلة نسبياً، التزم مؤيدوها على عاتقهم اخذ الانتقادات الموجهة إليهم على محمل الجد وتحسين حساباتهم الفلسفية لتنظر إلى التحالفات على أنها اجراءات تنظيمية جيدة. ومن هذا المنطلق يجب التغاضي عن الحركة الانفصالية في تشكيل الهوية من خلال الاعتراف بالطبيعة التقاطعية لعضويات الفئات الاجتماعية. ما زالت فكرة أن الهوية المهيمنة التي يحتاج المضطهد إلى الانفصال عنها قائمة، لكن ببدائل انسيابية ومتنوعة، وأقل اعتماداً على الانسجام القائم داخل المجوعة.

وأخيراً، تطرح الأعمال الأدبية التي تتناول التعددية الثقافية تساؤلاتٍ حول العرق، الإثنية، الاختلافات الثقافية، فيما يتعلق بالدولة الليبرالية. بعض الدول متعددة الثقافة تهدف إلى احتواء هويات ذات انتماءات ثقافية متباينة والسماح لها بالحفاظ على ثقافاتها -ككندا- على الرغم من القلق بأن تكون هذه الأهداف الليبرالية لا تتوافق مع قيم الثقافات التي تسعى لاحتوائها. على سبيل المثال، زعمت سوزان مولر أوكين Susan Moller Okin أن التعددية الثقافية قد تكون في بعض الأحيان "مؤذية للنساء"، وخاصة عندما تُحافظ على القيم الأبوية في ثقافات الأقليات. وإذا كانت التعددية الثقافية شكلاً من أشكال النسبية الثقافية التي تمنع الحكم على الممارسات "الخاصة" للأقليات أو التدخل فيها، فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى السماح بختان الإناث، والزواج القسري، والحجاب جبراً لا خياراً، أو الحرمان من التعليم. رد منتقدوا أوكين بأنها صورت الثقافة زوراً على أنها ثابتة، ومتجانسة داخلياً، ومعرّفة بقيم الرجل، مما يمكّن لليبرالية من الدفاع عن الحقوق الفردية. يرى العديد من المعلقين حول التعددية الثقافية أن هذا هو لب القضية: هل ثمّة تناقضات في الدفاع عن حقوق الأقليات الثقافية تساهم في منع الممارسات الثقافية التي تُعد ليبرالية؟ هل يمكن لليبرالية الحفاظ على الحياد القيمي والثقافي الذي يُنسَب إليها أم أنها ستتبنى ثقافتها الخاصّة؟  يُمارس حقوقيوا حرية التعبير الثقافي للأقليات في البلدان متعددة الثقافات نوعاً من الحركات سياسية الهوية التي تدعمها الليبرالية وتتقاطع معها في بعض الاحيان. تتزايد صعوبة التفرقة بين "الليبرالية" و"سياسات الهوية"، حيث اقترح البعض بالقيام بمطابقتهما.

 

الانخراط الفلسفي المعاصر في سياسات الهوية

منذ نشأتها في سبعينيات القرن الماضي، هوجمت سياسات الهوية كوسيلة تنظيمية للمواقف السياسية الفلسفية بطرق عديدة من قبل منتقديها، سواءً من خلال استبعادها براغماتياً أو بطريقة ممنهجة عملية. فبالنسبة للعديد من اليساريين، ليست سياسات الهوية سوى غيض من فيض، وكل ما تقوم به هو الانتقاد الثقافي مع العجز عن القيام بحلول جذرية للقمع. غالباً ما فسّرو كلٌ من الماركسيين، الأورثوذوكسيين، الرجعيين، الاشتراكيين، -وخاصةً اولئك الذين عاصروا نهوض اليسار الجديد في الغرب- نهوض سياسات الهوية على انه نهاية النقد المادي الراديكالي. فسياسات الهوية بالنسبة لهؤلاء النقاد منقسمة وغير منظمة بسياسة عملية، وتلفت الانتباه عن ويلات الرأسمالية المتاخرة نحو التسويات الثقافية العليا التي لا تنهض بالبنية الاقتصادية البتّة. ففي الوقت الذي تحظى به السياسات المعاصرة بالانتباه وإعادة التشكيل، تنتقد نانسي فرازر Nancy Fraser سيادة وجهات النظر غير العادلة جبراً في الكيانات الثقافية على الرغم من رفض الأشخاص الذين تُنسَبُ إليهم لمثل هذه الآراء. تصرّح أيضاً أن نماذج الاعتراف هذه يجب أن تُعدَّل لِتُثَمِّن "الحس الجماعي ’للجماعة’" من خلال التعرف على فردانيتها وتميّزها، وبالتالي سيُعاد تشكيل الهويات التي هي بذاتها نتاج للأنظمة القمعية. وعلى النقيض، يحتاج التوزيع الظالم إلى إعادة هيكلة وعلاج بهدف "إخراج المجموعة من العمل كجماعة"(فرازر Fraser). تعود وجهة نظر فرازر Fraser إلى ماركس Marix من خلال النظرية النقدية، كما ظهرت وجهات نظر شبيهة من خلال الفكر الفوكي (نسبةً إلى ميشال فوكو Michel Foucault). في كتابها المنشور عام 2008، تتحدث لوي ماكني Lois McNay عن كون مطالبات الهوية التي هي صميم حركات اجتماعية مُعاصرة كثيرة يتم تمثيلها كمطالب بالاعتراف في سياق سردي مُفرط السلطة. وتُصرح ماكني Lois McNay مع أن مُنظّري الاعتراف يرجعون عادةً إلى النموذج الهيغلي للموضوع المثير للجدل والموضوعي، لكنهم لا يعترفون بالتبعات الراديكالية لمثل هذه الفكرة. الحاجة للاعتراف أصبحت مخصصة ومنظمة، بعيداً عن الأنظمة الاجتماعية الكبرى للسلطة التي تشكّل ظروفاً تؤهل هويات معينة أن تزدهر.

 وبهذه الطريقة، يمكن أن تؤسَس قاعدة نقدية بالرجوع إلى الحوار حول الجوهر الفلسفي لسياسات الهوية القائم بين هابرماس Jürgen Habermas وفوكو Michel Foucault . يطول هذا الحوار ومظاهره المعاصرة المختلفة. على سبيل المثال، غلين كولتارد Glen Coulthard يعتقد ان التحول في العلاقة الاستعمارية بين الدولة والسكان الأصليين في كندا اليوم من القمع إلى مطالب الاعتراف المتبادل (خاصة من التمييز الثقافي) لا يمكن ان يكون استراتيجية كافية لانهاء الاستعمار. بقراءة تاريخ سياسات الاعتراف من هيجل Hegel إلى سارتر Sartre إلى فانون Fanon وبن حبيب Benhabib، يزعم كولتارد Coulthard أن هذا الخطاب يعيد العلاقة الأبوية والعنصرية والاستعمارية بين الدولة الكندية والسكان الأصليين ويزعم أن الدولة الكندية تسعى لتحسينها. لكن في الواقع، هو يدافع عن نموذج نهضة السكان الأصليين، بالعودة إلى التاريخ الثقافي والممارسات الاقتصادية التي لا تنتمي إلى الجوهرية ولا إلى الرومانسية، وهو ما لن يقوم بعلاقة مبنية على التنازلات مع الدولة الكندية الحالية. تقدم اودرا سيمبسون Audra Simpson حجة مماثلة، تقترح فيها أن سياسة الاعتراف تتناقض مع ماهيتها في ظل نزع ملكية المستوطنين، على فرض أن الاعتراف بالسكان الأصليين قد يتم في سياق "مسرحية كبيرة تقوم بها الدولة" كمصالحة، مما يجعل مظالم الاستعمار الاستيطاني كحدث من الماضي يتوجب الاعتذار عليه بدلاً من الاعتراف بالآثار السياسية المادية الواسعة التي تتمحور حول سرقة الأراضي وسيادات السكان الأصليين. 

منذ الأيام الأولى، اعترض البعض على تداخل بعض السياسات بين الجنسين والجندر والعرق، وخاصة على عرض الانقسام -أو الاختيار- بين الاعتراف وإعادة التوزيع، أو الانقسام -الاختيار- الثقافي والاقتصادي اللذين كانا مفهومين من خلال سياقات رأسمالية. بالنظر إلى عدد السياقات التي يجب أن تُعَمِمُهَا هذه المناقشات، من الصعب استنتاج مزايا "سياسات الهوية". ومع ذلك، في العالم السياسي لما بعد عام 2016، بعد استفتاء خروج بريطانيا في المملكة المتحدة وانتخاب دونالد ترامب  Donald Trump  في الولايات المتحدة، وكذلك بعد صعود أحزاب اليمين القومية و/أو التقشف في العديد من البلدان الأخرى، ركزت الاتهامات من مختلف الأحزاب السياسية وجهات النظر مرة أخرى على "سياسات الهوية". ويشير نقاد إلى أن انحدار السياسات الطبقية وعدم المساواة الاقتصادية، وإهانات الرجال البيض من الطبقة العاملة، قد أهملت من قبل كل من قيادات الأحزاب السياسية ومنظمي القواعد الشعبية، من أجل تنظيم حملات نسوية ، والسياسة الغريبة، ومكافحة العنصرية. على سبيل المثال، يقول فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama إن القرن العشرين كان قرن الاقتصاد في السياسة - مسابقة بين اليسار الذي تحدد هويته من خلال حقوق العمال، والرفاهية الاجتماعية، وإعادة التوزيع القوية، وبين اليمين الذي كان يسعى لتقليص الحكومة من خلال بيع القطاعات المملوكة للدولة وتقليص القطاع العام واستبدالها بخدمات واسواق القطاع الخاص. وعلى النقيض من ذلك، يقترح أن القرن الحادي والعشرين شهد تركيز اليسار "أقل على خلق مساواة اقتصادية واسعة النطاق وأكثر على تعزيز مصالح مجموعة واسعة من الفئات المهمشة، مثل الأقليات العرقية، والمهاجرين واللاجئين، والنساء، والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية". وفي الوقت نفسه، أعاد هذا الحق تعريف مهمته الأساسية بأنها الحماية الوطنية للهوية الوطنية التقليدية، التي غالباً ما تكون مرتبطة إرتباطاً صريحاً بالعرق أو الإثنية أو الدين. ويزعم أن هذا يجعل اليسار اقل قدرة على معالجة عدم المساواة السائدة، وإعادة توجيه تركيزه إلى "القضايا الثقافية"، والتثبت من الطابع الدولي، وتحقيق الاعتراف - كل ذلك يمكن للقوميين العنصريين أن يشاركوا بسهولة فيها: ويضيف أنَّ اليوم، يجب إحياء الهوية الوطنية الأمريكية العريقة، التي ظهرت في أعقاب الحرب الأهلية، والدفاع عنها ضد الهجمات التي يشنها اليسار واليمين. أما على اليمين فإن القوميين البيض يتمنون لو يستبدلون الهوية الوطنية العقائدية بهويات قائمة على العرق، والعرق، والدين. على اليسار، سعى أبطال سياسات الهوية إلى تقويض شرعية القصة الوطنية الأمريكية من خلال التأكيد على الإيذاء، والتلميح في بعض الحالات إلى أن العنصرية والتمييز بين الجنسين وأشكال أخرى من الإقصاء المنهجي موجودة في الحمض النووي للبلد.

ويخلص فوكوياما إلى أن سياسة الهوية هي العدسة التي يتم من خلالها القضاء على السياسة في الولايات المتحدة، مع غض البصر عن عدم المساواة الاقتصادية على اليسار، وهو ما يتيح التهرب بسهولة من اليمين. يكتب فوكوياما بمعارضة شديدة للحركات الاجتماعية التي تُسمّى سياسات الهوية، غير أن التداخل الذي يصفه بين الاقتصاد والهوية يعود إلى إصدار خاص من المجلة الماركسية المادية التاريخية صدر عام 2018، حيث تناول المحررون في مقدمتها مقاربة تُظهر كيف: أنكر اليسار فكرة الهوية باعتبارها متجذرة مادياً، دخيلة على السياقين التاريخي والجغرافي. ويرى أن على قبول البديل الفطري: الذي يحترم العرق، الجنس، الميول الجنسي، الأشياء التي تُعتبر شخصية. لم يعمل هذا التحول على تعزيز ثنائيي الهوية/الفئة فقط، ولكنه أدى أيضاً إلى نشوء مخيلة سياسية خانقة، حيث لا يمكن تصور السياسات القائمة على الهوية إلا في إطار منطق ليبرالي رأسمالي.

 

رداً على هذا التحدي، يشير المؤيدون أنَّ التنظيمات السياسية المعاصرة -حول النسوية ومكافحة العنصرية- أمثال حركات #MeToo  و BLACKLIVESMATTER# على سبيل المثال لم تبتعد عن المكونات الاقتصادية لتحليلاتهم.كما  يمكن فهم كلًا من النقد الاقتصادي لعملية إعادة التوزيع والحوار حول تمييز الهوية الجمعية بسياقين مختلفين. الفكرة، على كل حال، يصعب على أنصار الجنس، الجندر، او العرق، أن يدافعوا عن آرائهم إذا استمروا بتجاهل النواحي الاقتصادية للمعاني الفردية والاجتماعية. وكما تشير سوزانا دوناتا Suzanna Danuta، فإن "نقد سياسات الهوية يعتمد على رؤية الهوية فقط كملاذ المهمشين والمنبوذين، ينطبق الأمر كذلك على الرجال البيض بما فيهم الطبقة العاملة، والرجال الملتزمين الذين هم المجتمع المتخيل لليمين الجديد، الذي ليس له هوية بطريقة ما. وصف بول جوشا Paul Joshua هذا الموقف على أنه "سياسات الهوية المعادية للهوية"، كما مثّل عليها في وصف حركة  All Lives Matter رداً على حركة Black Lives Matter: "يقوم على نظام عنصري مُعتَبَر مُسبقاً قد تم ربطه منذ قرون من الممارسات القانونية والواقعية التي تم تثبيتها بصمت في المجتمع الدولي اجتماعياً وسياسياً... ورغم المطالبات العالمية، تظل سياسة انتقائية متخفية تقدم نفسها من خلال خطاب الهيمنة باعتبارها سردية مضادة شاملة."

كلّ مرة تُراجَع المقالة، يكون من المغري الكتابة عن سياسات الهوية أنه مصطلح قد عفا عليه الزمن قد بالغ النقاد في اختزاله في المعجم السياسي، مؤثِراً اليسار الماركسي على اليمين المحافظ. غير أنه في 2020 لا تزال هناك حوارات قائمة حول الاعتراف مقابل إعادة التوزيع، وعن مطالب التقاطعية، والأشكال الجديدة للمقاومة السياسية للحركات القائمة تحت شعار "سياسات الهوية". ما انفكت السلطة السياسية، بمفهوميها العام والخاص، تسعى للتأثير على المطالبات السياسية الحديثة: فالأدب العام على سبيل المثال، يعرّف الإعاقة على أنها مجموعة تجارب متنوعة ومتكررة من الظلم الاجتماعي التي تُعيق فهم الذات بشكل موضوعي بالنسبة للأشخاص المتضررين أو المصابين بها، كما انها تحفز الممارسات السياسية التي تعمق لهيمنة الثقافات تغيير ممارساتها الاجتماعية الإقصائية. الفكرة الأهم عن الهوية بالنسبة للفلاسفة هي أنها لا تزال بحد ذاتها في تغير مستمر. فمحاولات فك شيفرة الجين البشري لتشكيل الجين البشري المستقبلي، لاستنساخ البشر، أو زراعة الأعضاء الحيوانية في البشر، وغيرها، تولّد أسئلة  فلسفية عميقة عن ماهية الشخص. وكما بات كثيرون يميلون إلى تشكيل احلاف سياسيين باستخدام وسائل التواصل، فإن الهويات التي كانت ذات أهمية بدأت تتغير كذلك. تزايد تشخيص السلوكيات، الاعتقادات، والفهم الذاتي على أنها متلازمات مرضيّة، بما في ذلك الهويات الجديدة للأشخاص، والذي بدوره يسنح لسياسات هويات جديدة بالظهور.

 وعلى نحو متزايد، تكشف هذه القائمة الطويلة من المتغيرات المربكة لفكر سياسات الهوية عن تماسكٍ فلسفيٍّ في النماذج المناهضة للهوية والتي تتخذ أشكالاً عديدة كمفاهيم منظمة: الحياة، التأثير، الوقت، أو المكان. مثلاً، يشترك كلا السياقين السياسيين للفلسفات المادية والحيوية الجديدة، في التركيز على تفضيل الوجود على الكينونة، وعزوف "ما بعد الإنسانية" عن منح الأولوية الوجودية للخصائص المشتركة بين البشر، والتشكيك في خطابات الأصالة والانتماء، والرغبة على التركيز على توليد حلول سياسية خلّاقة. نواجه تحدياً جذرياً في التفرقة بين البشر والحيوانات، الكائنات الحية والكائنات الغير حية، وبين الأشياء والموضوعات. جائحة كوفيد-19 أوضحت بشكلٍ غير مسبوق البتة كيف يتأثر حس الإنسان بالبيئة بكل سهولة. وبدرجات مختلفة تتكرر هذه التوكيدات في علوم طبيعية اخرى، سواءً عمل آن ماري مول Annemarie Mol في الانثروبولوجيا الطبية، أو إعادة إدخال الأجسام اجتماعياً وبيويلوجياً  كقوى ديناميكية وفعّالة في تشكيل القوى الذاتية السياسية، أو بطرق أخرى غير مباشرة، فالتجارب التكنولوجية تشكّل جزءاً كبيرة من هوياتنا المعاصرة. قد يعتقد البعض أن هذه التحولات والتناقضات ليست سوى علامة على نهاية عصر سياسات الهوية. ومع ذلك، فمهما كانت القيود المتأصلة في التشكيلات السياسية للهوية، فإن السلطة البلاغية الثابتة للعبارة نفسها تشير إلى الأثر العميق لمسائل السلطة والحكم الشرعي وأنه من المستبعد لها أن تتلاشى مع مطالب تقرير المصير.

 

 

 

المصادر والمراجع:

Cressida Heyes and Edward N. Zalta, Identity Politics, Stanford Encyclopedia of Philosophy, Metaphysics Research Lab, Stanford University Fall 2020, retrieved at 29/09/2021 00:14.

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia